إلفيرا نابيولينا, المرأة الحديدية التي أنقذت بوتين وأرعبت الغرب..
قبل نحو تسع سنوات، وتحديداً في 7 مارس 2013، سأل صحفي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسم الشخصية التي سيتم تعينها في منصب محافظ المركزي الروسي بعد تقاعد الحاكم الحالي سيرجي إغناتيف.
رد عليه الرئيس بوتين وقال بأن المحافظ الجديد سيكون مفاجأة جميلة للجميع. لم يفهم أحد ما قصده بوتين أنذاك. هذا الجواب أثار فضول الناس والصحافة وحتى المسؤولين في الحكومة الروسية لمعرفة إسم المحافظ المقبل.
في الثاني عشر من نفس الشهر ، قدم بوتين الحاكم الجديد للصحفيين في مقر إقامته في نوفا أوغاليوفو. كانت هي مستشارته الاقتصادية الفيرا نابولينا.
وهذا ما شكل مفاجأة للجميع حينها ليس لأن نابولينا كانت أول إمرأة تمسك هذا المنصب الرفيع, بل لأن إسمها لمن يكن من ضمن قائمة الأسماء المرشحة لهذا المنصب.
كان هناك أسماء أشهر وألمع منها لتولي هذا المنصب الحساس، مما جعل الناس في ذلك الوقت يتساءلون! هل اختار بوتين نابولينا لانه يضمن ولاءها وليس لكفاءتها؟
والسؤال الأخر! هل ستدير البنك المركزي بشكل مستقل أم سيملي عليها بوتين حسب مزاجه؟ قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة، اسمحوا لي أن ألقي نظرة سريعة على نابيولينا وطبيعة علاقتها ببوتين؟
من هي نابيولينا ؟
في 10 أكتوبر 1963، كان لدى اثنين من التتار الذين عاشوا في منطقة باشكورتوستان في الاتحاد السوفيتي, وهما السائق ساكيبزادا سيتزاداييفيتش وعاملة المصنع زليخة خاماتنوفنا ابنة اسمها إلفيرا نابيولينا.
اشتق اسم نابيولينا من الكلمة العربية نبي الله، كانت نابيولينا متفوقة جدا في دراستها وتخرجت من جامعة موسكو في
عام 1986.
عملت في وزارة التنمية الاقتصادية والتجارة في روسيا لسنوات عديدة إلى أن تم تعينها نائبة للوزير, وبعد عشر سنوات
وتحديدا في سبتمبر 2007 عينها الرئيس الروسي وزيرة التنمية الإقتصادية والتجارة.
بقيت إلفيرا نابيولينا في هذا المنصب لغاية مايو 2012, وتم تعينها بمنصب مساعد الرئيس للشؤون الإقتصادية لغاية 2013, إلى أن تم تعينها محافط البنك المركزي الروسي. ومن هنا بدأت رحلة نابيولينا مع أرفع وأهم منصب إقتصادي في روسيا.
رئيسة المصرف المركزي الروسي
في البداية كان هناك الكثير من الشكوك حول مدى كفائتها وصلابتها في إدارة البنك المركزي, لأنه في ذلك الوقت كان
القطاع غير منظم وكانت العديد من البنوك تعاني من مشاكل مالية خطيرة.
والكثير من البنوك لم تكن تلتزم بالقوانين التنظيمية التي تحكم السوق, حينها تعهدت نابيولينا بسحب رخصة البنوك التي لا تلتزم بالقوانين وهددت بإقفالها بغض النظر من يكون صاحب البنك.
واحد من أول البنوك التي قامت إلفيرا نابيولينا بإقفاله كان البنك الروسي “ماستر بنك” وهنا كانت المفاجأة لأن إيغور بوتين هو إبن عم الرئيس بوتين وكان حينها نائب رئيس البنك وعضو مجلس الإدارة.
وبالرغم من ذلك تم سحب ترخيص البنك وإقفاله.
عندما تم تعيين إلفيرا نابيولينا, كان القطاع المصرفي الروسي يحتوي على 1000 بنك ومؤسسة أئتمانية, بدات حينها بتصفية وإقفال البنوك التي لم تكن تلتزم بالقوانين, إلى أن وصل عددهم اليوم إلى 370 مصرفا, منهم مصارف لم يكن أحد ليستطيع أن يقترب منها.
ولكن الرئيس بوتين أعطى لنابيولينا الضوء الأخضر بإصلاح القطاع المصرفي من دون تدخل من أحد, وعندم سئل بوتين
عام 2014 عن البنوك التي يتم إقفالها يوميا أجاب بأن الهدف منها تحسين القطاع المصرفي والنظام المالي لروسيا, وتطهيره من المؤسسات المالية التي لا تستطيع ان توفي بإلتزاماتها.
ثقة بوتين
كان الرئيس بوتين يثق أشد الثقة ب إلفيرا نابيولينا وقراراتها وإزدادت ثقته فيها أكثر بعد سنتين من مهامها كمحافظ للمركزي الروسي, السؤال الذي يجول في خاطرك الأن, ماذا فعلت نابيولينا خلال هاتين السنتين ؟ سأجيبك.
في 2014 واجهت روسيا 3 أزمات, تراجع أسعار النفط والعقوبات الإقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا جراء إحتلالها
لشبه جزيرة القرم, ناهيك عن خروج الأموال الأجنبية من روسيا مما أدى إلى ضغوطات هائلة على الروبل.
كان المصرف المركزي في ذلك الوقت يتبع سياسة التعويم المدار أو ال “Managed Floating Exchange Rate”. بمعني أن الروبل كان متعوما ولكن تعويما جزئيا فقط.
كان الروس يحاولون بأن يكون سعر صرف الروبل أمام الدولار قريب من 30 روبل لكل 1 دولار, ولكن بعد العقوبات
الغربية والمشاكل التي كانت تواجه روسيا أصبحت تكلفة تثبيت الروبل عند هذا المستوى ضربا من الخيال.
في نوفمبر 2014, حرق المركزي الروسي أكثر من 90 مليار دولار في السوق لكي يسند الروبل أمام الدولار, ومع صرف
هذا المبلغ كله إلا أن الروبل لم يستطع أن يقاوم الدولار, “أو على راي المصريين مش قادر يسلب طوله قدام الدولار”.
حينها لم يكن أمام نابيولينا إلا خيار من إثنين, إما أن تكمل في سياسة حرق الإحتياطيات الأجنبية لدعم الروبل, أو أن تلجأ
للخيار الذي سيغضب الناس ويكون له تكلفة سياسية كبيرة وهو تعويم الروبل بشكل كامل.
إختارت نابيولينا الخيار الأصعب وهو تعويم الروبل لأنها كانت تراه الحل الأنسب لروسيا, وأخبرت بوتين في ساعة متأخرة من الليل بقرارها.
إلفيرا نابيولينا وتعويم الروبل
في نوفمبر 2014 أعلن المصرف المركزي الروسي تعويم الروبل بشكل كامل, مما شكل صدمة كبيرة في روسيا
وخصوصا على مستوى المستهلكين الذين تراجعت مذخراتهم مع تراجع قيمة الروبل عند تعويمه والذي خسر ما يقارب
ال 40% من قيمته في بداية 2015.
هذا القرار وبحسب المطلعين جنب روسيا ازمة إنهيار إقتصادي كانت ستضربها لو بقيت في سياسة حرق الإحتياطيات لدعم عملتها.
بفضل سياسات إلفيرا نابيولينا إستطاعت روسيا أن تسيطر على معدل التضخم والذي كان قد تخطى حاجز الـ 15% في 2015.
وتحت ضغط من الأزمات اللي واجهتها البلاد, بقي مؤشر التضخم في التراجع إلى أن وصل لـ 3.4% في 2020.
أما أحد الأسباب الرئيسية في عودة المستثمرين الأجانب لروسيا بعد الذي حصل في 2014 وضخهم لعشرات المليارات
من الدولارات في روسيا هو ثقتهم في نابيولينا, عند تعينها على راس المركزي الروسي كان هناك مبلغ 5 مليار دولار
يخرجوا من روسيا كل شهر إلا أن أوقفت نابيولينا هذا النزيف.
جمعت روسيا إحتياطيات من النقد الأجنبي بكميات كبيرة في السنين الأخيرة, كانت هي الأساس التي بنيت عليها خطة
“Fortified Russia” أو روسيا الحصينة.
الخطة الاقتصادية التي حاولت روسيا خلالها أن لا تقع في نفس الورطة اللي وقعت فيها في 2014, ولكن العم سام
فعل ما لم يكن في الحسبان.
الحرب الروسية الأوكرانية
كانت حسابات الروس عند دخولهم لأوكرانيا, بأن الأوروبين في أسوأ الظروف سيتوقفوا عن شراء النفط والغاز الروسي,
وأن الإحتياطيات التي جمعتها روسيا منذ عام 2014 قادرة على أن تسند روسيا لسنوات.
ولكن الذي لم يكن بحسابات الروس هو أن أمريكا وحلفاؤها سيستهدفون الإحتياطيات الروسية.
الأمريكيون تحديدا كانوا يراقبون تحركات إلفيرا نابيولينا طوال الوقت, وفكرة تجميد الإحتياطيات الروسية كانت مجرد إحتمال نظري وغير واقعي بالنسبة لروسيا.
المنطق الروسي إستند على 3 عوامل, هو أن روسيا دولى عظمة لا يستطيع أحد أن يقترب من إحتياطاتها المالية هذا أولا, ثانيا دخلت روسيا الى جورجيا في عام 2008 وإحتلت شبه جزيرة القرم وأيضا لم يقترب أحد من إحتياطاتها المالية.
بالرغم من العقوبات التي فرضت عليها في ذلك الحين, ولكن غزو أوكرانيا كان مختلفا بالنسبة للعم سام وللأوروبين, والذي كان بنظر الروس مستحيل أن يحصل حصل.
أواخر فبراير 2022 بدأت أميركا وحلفاؤها بتجميد إحتياطيات المركزي الروسي الموجودة عندهم, وبجرة قلم حرموا روسيا من حوالي 400 مليار دولار من إحتياطياتها من النقد الأجنبي.
وهذا ما شكل صدمة كبيرة جدا للمسؤولين الروس بشكل عام وفي مقدمتهم المرأة التي بنت كل هذه الإحتياطيات إلفيرا نابيولينا.
إلفيرا نابيولينا جزء من المعركة
وجدت نابيولينا نفسها بأنها جزء من معركة إقتصادية تشنها أمريكا وأوروبا على روسيا, وهي من واقع مسؤوليتها كمحافظ للبنك المركزي الروسي عليها أن تدافع عن الإقتصاد مقابل العقوبات, وأن تحاول بقدر الإمكان التقليل من تأثيرها.
أول مهمة صعبة واجهتها نابيولينا هي قيمة الروبل الذي إنهار وفقد أكثر من نصف قيمته حيث تراجع سعره إلى 150روبل مقابل الدولار الواحد.
كانت مهمة نابيولينا شبه مستحيلة لأنه كان مطلوبا منها الدفاع عن الروبل في الوقت الذي لا تستطيع فيه الوصول إلى أغلب الإحتياطي الروسي.
في 28 فبراير 2022 أعلنت نابيولينا رفع سعر الفائدة الرئيسي من 9.5% إلى 20% لكي توقف حركة الدولرة الشرسة التي بدأت تشهدها البلاد بعد ساعات من الحرب, وقررت أيضا فرض ضوابط على حركة رأس المال.
إلفيرا نابيولينا وإدارتها للأزمة
في 18 مارس 2022 خرجت نابيولينا وصارحت الشعب بالحقيقة, وأخبرتهم بأن الإقتصاد الروسي يمر بمرحلة حرجة وبأن الأقتصاد سينكمش خلال الفترة المقبلة وسيزيد التضخم.
ولكن المفاجأة هي إنه بعد فترة قصيرة من تصريحاتها نجحت نابيولينا أن تعيد سعر الروبل إلى ما كان عليه قبل بداية الحرب وجنبت روسيا سيناريو التخلف عن سداد ديونها, وهذا ما خفف الضغط عن الرئيس الروسي, وهذا هو سر إهتمام خصوم روسيا بنابيولينا.
الصحفي الأمريكي الشهير جيمس فريمان نشر مقال في وول ستريت جورنال في 24 مارس 2022 طلب فيه من الرئيس بايدن أن يحاول جذب نابيولينا لصف أمريكا وأن يستغلوا المعلومات والتقارير التي قالت بأن نابيولينا لم تكن موافقة على الحرب وبأنها تفاجأت وحاولت تقديم إستقالتها.
كما طلب الصحفي فريمان من بايدن ونائبته أن يرسلوا لها عبارة “Welcome to America”
وأيضا بعد يومين خرج صحفي أخر في التليغراف البريطانية ونصح أجهزة الإستخبارات الغربية بمحاولة إستهداف نابيولينا وإقناعها بالإنقلاب على بوتين.
ومن وجهة نظر الصحفي بأن لو ما نجحت أجهزة الإستخبارات الغربية بضم نابيولينا فستكون ضربة قوية للرئيس الروسي, وستحد من قدرة روسيا على الإستمرار في الحرب.
أما عالم الإقتصاد الأمريكي الشهير الحائز على جائزة نوبل في العلوم الإقتصادية بول كروغمان, قال في تعليقه على تحركات نابيولينا ونجاحها في إنقاذ الروبل:
“إن الشيء الوحيد الجدير بالملاحظة في الحرب الروسية الأوكرانية هو أن المسؤولين الإقتصاديين في روسيا أكثر كفاءة من جنرلاتها”.
وبالمناسبة تتمتع نابيولينا بحراسة مشددة ترافقها في كل مكان, حتى وهي في مقر إقامتها, مهمتها هي حراسة والحفاظ على حياة أهم مسؤولة إقتصادية في البلاد.
فهل تنجح أمريكا وحلفاؤها في أوروبا في قلب نابيولينا على بوتين من خلال إقناعها بترك البلد والسفر خارج البلاد كالذي حصل مع مبعوث بوتين للمناخ الإقتصادي أناتولي تشوبايس؟